(هي الرسالة التي وجّهها الزعيم في 20 يونيو/حزيران 1947 إلى القوميين الاجتماعيين من مقره، يستعرض فيها الفترات التي مر بها الـحزب منذ عودته إلى الوطن).
أيها القوميون الاجتماعيون،
ما كادت تطأ قدماي أرض الوطن، عائداً من الـمغترب القسري الذي فرضته عليّ ظروف الـحرب، وما كدت أفرغ من استعراض صفوفكم الـمحتشدة في مطار بيروت لاستقبالي وإلقاء خطابي لكم، حتى شعرت عناصر الرجعة والطائفية والنفعية وعمال الـمصلحة الأجنبية وأقزام هذا الاستقلال، الذي قضت مصلحة دولة كبيرة بحصوله، أنّ حقيقتكـم هي الـحقيقـة العظمى - حقيقة الأمة وحقيقة الاستقلال الصحيح - وأنّ قضيتكم هي القضية القومية الصحيحة لهذه الأمة، وأنّ رسالتكم هي رسالة الـحق لها، وأنّ قيادتكم هي قيادة الهداية إلى الـمجد والـخير؛ فشق عليهم الأمر وفطر قلوبهم الـحسد ودفعهم إلى الكيد لي ولكم، فدبّروا حملة رسمية أرادوا بها تشتيت شملكم وخفض معنوياتكم؛ فكانت معركة حامية دارت بين قوانا - قوى الـحق (ح.ق) - وقواهـم - قوى الباطـل - فانتصرنا انتصاراً جلياً لا غبار عليه، وردّت حملتنا الـمعاكسة الصادقة، كيد الكائدين في نحورهم، وكسرت خونة الأمة شر كسرة، وعرف الرأي العام حقيقة موقفكم فأكبركم وأفتخر وأعتزّ بكم.
إنّ الفضل في إحراز ذاك الإنتصار يعود إلى قواعد حركتكم القومية الاجتماعية العظيمة الأساسية التي هي: صحة العقيدة ورسوخ الإيـمان واكتمال الوعي وسمو الـمناقب، فقد أظهر القوميون الاجتماعيون في لبنان، في إبّان الـمعركة الـمذكورة، من الإقدام والتفاني والغيرة والفاعلية ما أكسبهم إعجاب الشعب وإعجاب الأمـم الأجنبية التي نقلت إليها أخبارهم. وكان لـموقف القوميين الاجتماعيين خارج لبنان، خصوصاً في الشام، حيوية عظيمة في الـحملة القومية الاجتماعية على الرجعة والاستغلالية. وكانت وحدة الـحركة القومية الاجتماعية الـمتينة من أقوى أسباب الانتصار في الـمعركة الروحية التي مرّت.
أتت بعد ذلك معركة الانتخابات اللبنانية التي كنت متشائماً بها، وقد تنبأت بنتائجها السيئة في خطبتي في بسكنتا مساء العشرين من مايو/أيار الـماضي، أي قبل يوم الانتخاب بخمسة أيام. وقد قلت في تلك الـخطبة إنه لن يكون في الانتخابات معركة بالـمعنى الصحيح بل مناوشة أولى بين طلائع النهضة القومية الاجتماعية والتكتلات الشخصية الـحكومية والـمزاحمة للحكومة. وقلت إنّ النتيجة ستكون مجلساً جديداً من الطراز العتيق فلا يُرجى من مشاحناته الشخصية أي تـحسين لـحالة البلاد.
في الانتخابات الـمذكورة ظهرت قوة الـحزب وتـجلّى تفوّقه النظامي والسياسي ونزلت في الصناديق أصوات كافية لإنـجاح مرشحينا في جبل لبنان. ولكن التزوير، الذي لم يعد في وسع أحد إنكار حصوله، أفقد الـحزب النتيجة الأكيدة التي كانت من نصيبه. وفي بيروت والشمال والـجنوب من الـجمهورية اللبنانية إنسحب مرشحونا تـجاه الضغط الـحكومي والإرهاب والتزوير، تـجنباً لاصطدامات دامية كانت الـحكومة قد أعدّت لها كل قوات الدولة الـمسلحة. وفي البقاع جرى تزوير كبير فلم ينل مرشحنا سوى ثلاثة آلاف صوت!
وكانت الـحكومة، أو الكتلة القابضة على الـحكم، قد عملت جهدها لشل حركة الـحزب القومي الاجتماعي السياسية بإصدارها مذكرة توقيف بحقي بلا مبرر وبتعطيلها جريدة النهضة التي تـحمل إذاعة الفكر القومي الاجتماعي وأنباء الـحركة القومية الاجتماعية، معرقلة الـحرية والـحقوق الـمدنية والسياسية لأعضاء الدولة؛ متحيّزة ومتحكمة في حقوق أبناء الشعب؛ مدّعية، بعد ذلك، دون أن يندى لأعضائها جبين أو يحمرّ لهم وجه، أنّ الـحقوق الشعبية كانت مصانة، وأنّ حرية الرأي والقول والنشر كانت مباحة بلا استثناء!!
مرّت الفترة السابقة للانتخابات والـموقف بين الـحزب القومي في لبنان والفئة الطامعة في احتكار السلطة بالطرق التي تـمرنت عليها أيام تعاونها مع الاحتلال الفرنسي، موقف هدنة غير معلنة: لأن الفئة الـحكومية كانت منصرفة بكل قواها إلى تأمين نتائج عملية الانتخابات لـمصلحتها بكل الطرق، بلا استثناء. وكانت الـحالة تقضي بعدم الدخول في صراع مع الـحزب القومي يخلق مشاكل، ليس من مصلحة الـحكومة التعرض لها، قبل إنهاء عملية الانتخابات. فلما قاربت هذه العملية، التي أثارت سخط الرأي العام اللبناني، من الانتهاء، تشكلت بسرعة حكومة مبتسرة من معظم أشخاص الـحكومة السابقة.
والظاهر من التدابير الأولى التي لـجأت إليها هذه الـحكومة أنّ خطتها هي خطة الإمارة الإقطاعية التي تريد إخماد كل فكر في الدولة لا يروق لأشخاصها أو لا يتفق مع منافعهم، وتعطيل كل قوة شعبية حرة كي لا تكون عثرة في سبيل مآربهم. والظاهر أنّ هذه الـحكومة قد خططت لتنفيذ غاية أشخاصها خطة باهرة هي معجزة التاريخ السياسي في لبنان هي: محاربة كل قوة شعبية تخشى مقاومتها لأغراضها الشخصية وسياستها الـخصوصية بـمفردهـا. والقوة السياسية الـمنظمة الأولى في الـجمهورية اللبنانية هي قوة الـحركة القومية الاجتماعية. ولـما كان زعيم هذه الـحركة العظيمة الـمباركة هو الـمؤسس والـمنشىء والـمحرك والقائد لهذه النهضة الـجبارة رأت الـحكومة، وهي عينها السابقة واللاحقة، أنه يجب حجز حرية الزعيم لشلّ هذه الـحركة وإخضاعها ومحو قضيتها الـمقدسة. فكما لـجأت إلى استصدار مذكرة توقيف بحق الزعيم لشلّ حركته السياسية قبل الانتخابات، كذلك جعلت باكورة أعمالها بعد تـجديدها حكمها: محاولة القبض على الزعيم بالقوة! أو هي عودة إلى أساليب الاحتلال الأجنبي عينه لـمحاربة نهضة الأمة ووعيها القومي ومحاولة قتل قضيتها القومية الاجتماعية التي هي قضية حياتها وحريتها ورقيها!
وما هي حجة الـحكومة الشرعية لـمحاولة إيقاعي في قبضتها؟
هي أنه يوجد مذكرة توقيف بحق الزعيم!
وما هو سبب مذكرة التوقيف العجيبة هذه؟
هو أنّ إدارة الأمن العام لم تتوفق إلى جلب الزعيم تـحت الـحفظ «لاستجوابه»!
وماذا يوجب استجواب الزعيم؟
هو خطابه يوم وصوله!
وماذا في خطاب الزعيم يوم وصوله؟ هنا تقع الـحكومة في ورطة وجوابها هو جواب الضفدعة: «في فمي ماء.»
وإذا كان أصل هذه القضية - قضية الـمذكرة - باطلاً فلماذا تريد الـحكومة ملاحقتها؟
وحجتها الظاهرة هي: «هيبة الـحكومة!»
وإذا سئلت: «لـماذا لم تفكر الـحكومة بهيبتها حين قررت بنزق بعض أعضائها وانسياق بعضهم، إحداث هذه القضية الباطلة؟
كان الـجواب البليغ هو هو: «في فمي ماء!»
ومن أجل أنّ «في فم الـحكومة ماء» يجب خنق حرية الرأي والقول في لبنان؛ وتسخير القضاء لـمشيئة الـحُكام الاستبدادية وأهوائهم؛ وتسيير قوات الأمن العام والـجيش، التي غرضها الرئيسي حفظ حرية الشعب وصيانة تطوره الـحر، على قوى الشعب الـحية وزعامة قضية حرية الأمة الصحيحة وحق الشعب الصريح، ولو أدّت هذه الأعمال الـجامحة إلى تأخير الشعب وإنزال أسوأ النتائج بحياته واستقلاله!
بعد التزوير في الانتخابات الذي طعن إرادة الشعب وكرامته، يجب تـحويل أنظار العالم نحو قضايا أخرى ويجب، قبل كل شيء، التخلص من زعيم الـحركة القومية الاجتماعية وقوة هذه الـحركة ومكانتها في الشعب، لعلّ الـحكومة تتمكن من تثبيت نفسها بهذه الواسطة السخيفة!
أيها القوميون الاجتماعيون،
إنّ الـحكومة تـجاهد في سبيل إعادة هيبة فقدتها من يوم إصدارها تلك الـمذكرة الـمشؤومة. ونحن نـجاهد في سبيل قضية قومية اجتماعية مقدسة. وشتّان بين ما نـجاهد نحن لأجله وبين ما تستخدم الـحكومة قوات الدولة لبلوغه!
كما انتصرنا على الاحتلال الفرنسي، الذي كان يتعاون معه على استعباد الأمة وتـمزيقها وقتل نهضتها القومية الاجتماعية في الـمهد أكثر هؤلاء الذين هم في الـحكم اليوم، كذلك سننتصر على فساد الـحكم الوطني الـمقتبس أساليب الاستعباد الأجنبي، وعلى أهواء الذين تُسوّل لهم أنفسهم حسبان الشعب مطية لأغراضهم الـخصوصية.
إني أهنئكم بربح الـمعركة الأولى وأتوقع أن أهنئكم عاجلاً بربح الـمعركة الثانية.
أنتم حماة حق الأمة في النهوض والـمجد، والأمة كلها تنظر إليكم وترجو الإنقاذ من الفوضى والفقر والاستهزاء والتدجيل، على يد حركتكم الـمجيدة.
إنّ حركتكم القومية الاجتماعية، وحدها، أنقذت شرف الأمة حين كانت عناصر الاستغلال خانقة أو متعاونة مع مستعبدي الأمة والأجانب على إهانة الأمة وسحق إرادتها.
إنّ حركتكم القومية الاجتماعية ستنقذ الأمة من الفوضى والفقر والاستهزاء والتدجيل وتسير بها إلى الفلاح والـمجد.
سيروا في منهاجكم الصريح وفي نور تعاليمكم: فالنصر يلوح في الأفق وهو ينتظركم بأكاليل غاره!
إحذروا الفشل والتخاذل، وتـجنبوا الفاشلين الـمتخاذلين: فما فسحت فئة للفشل والتخاذل مجالاً إلا أتتها الـخيبة وذهب من قبضتها الظفر الأكيد.
سيروا في نور إيـمانكم ونظامكم ففي سيركم الانتصار والإنقاذ للأمة!
الـمقر في 20 يونيو/حزيران 1947
أنطون سعاده